بقلم: أيوب مرين
جامعي
M.ayoub16@gmail.com
" كل جماعة لا تتطور ولا يعتريها تغيير في حدود الزمن، تخرج بذلك من التحديد الجدلي لكلمة مجتمع "1
لمعت في ذهني هته المقولة لمفكر الحضارة، وأنا أتألم من فشلنا المريع على كل الجبهات، فحقيقة ً أن أغلب مشاكلنا التي نعانيها يوميا، والتي تبدو تافهة ً وليست بالأمر الجلل، يكون منشؤها عميق الجذر متشعب التأصيل.. إن لامبالاتنا - ويا أسفاه – قد أخرجت تجمّعنا من دائرة المجتمعات، ولا سبيل لنا إلّا التطلِّع إلى التغيير الِاجتماعي، حتى نعود إلى دروب الحضارة.
حازت إشكالية التغيير الِاجتماعي طوال مرِّ العصور على نصيب محترم من الِاهتمام، وعلى القدر نفسه من الِاختلاف.. إذ يؤكِّد البعض أن التغيير الِاجتماعي ينطلق من القاعدة في اِتجاه تصاعدي، يُفند آخرون بأن هته العملية تبدأ من القمةِ نزولا، ولا يزال هذا الجدال قائما إلى يومنا هذا.
يعتبر الشيخ عبد الحميد ابن باديس من الذين اهتموا بشكل كبير بهذا الموضوع في العصر الحديث، بل نذر حياته - وقفاً – من أجل هذا الهدف.. حيث يرى أن أوّل مرحلة في عملية التغيير الِاجتماعي* هي دراسة المجتمع وتِبيَان أمراضه، بعدها مرحلة معالجة المجتمع مما أصابه، وقد جعل التعليم أساساً للتغيير الِاجتماعي*، وفي هذا يقول "فإنّنا اخترنا الخطة الدينية عن غيرها عن علم وبصيرة... ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهراً ولضربنا فيه المثل"2، ويمكن تلخيص منهجه في قوله "فإنّنا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن... وغاياتنا التي ستتحقّق أن يكوِّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق الأمة آمالها"3.
انه لمن المسلمات أن الفرد السوي أساس المجتمع السوي، إذ يشكِّل بنيته التحتية والعضوية وأن أي تغيير اجتماعي ينطلق حصراً عبر إيجاد عناصر التّغيير الفردي في المجتمع، تتحقق هته الانطلاقة بتشكيل نخبة صلبة مؤمنة بمشروعها تؤسس لمشروع مجتمع وتشكل نواته، ثم تعمل على الِانتشار بشكل أفقي وعمودي، وتكريس الإيمان والِالتزام المجتمعي بالفكرة، وهذه هي مرحلة بناء المجتمع.. إذ انه لا بد لكل جماعة من صفوة قائدة، وأن مصير هته الجماعة مرتبط دائما بهته الصفوة كما يقول ارنولد توينبي، وإذا حدث أن عزلت هته النخبة نفسها عن مجتمعها، كان الِانزلاق في منحدر التخلف والتوحش.
بعد مرحلة التأسيس لمجتمعٍ سوي، تحين مرحلة استلام مراكز القرار - وجوبا - وإلا اندثرت هته النخبة وتلاشت واندثرت معها الفكرة، وهنا تبدأ مرحلة بناء الحضارة وأعلل ذلك بكون مقوِّمات قيام الحضارة يُتَحَكَمُ بها من الأعلى، حتى إذا كان الفساد في القاعدة سَهُل معالجته، لكن العكس غير صحيح.. وفي هذا يقول صاحب كتاب سيكولوجيّة الجماهير "في كل الدوائر الِاجتماعية من أعلاها إلى أسفلها نجد أن الإنسان يقع تحت سيطرة قائد ما، ونجد أن معظم الأفراد خصوصا في الجماهير الشعبية لا يمتلكون خارج دائرة اختصاصهم أيَّة فكرة واضحة ومعقلنة، وبالتالي فهم عاجزون عن قيادة أنفسهم بأنفسهم"4، ونلمس هذا الفكر عند مالك بن نبي، حيث يؤكِّد على أن التغيير يبدأ من داخل الفرد "وإنَّها لشرعة السماء، غير نفسك تغير التاريخ" 5.. والفكرة الدينية تعبر عن اِلتِفاف الجماعة حول مبادئٍ يعتقدونها ويسعون بها إلى الأفضل، أمّا شرط التوجيه فيعبر عن تحكم الفكرة في مصادر القرار، هذا من حيث المنهج.. أمّا من ناحية المسير يقول: " إن صناعة التاريخ تتم تبعاً لتأثير طوائف اِجتماعية ثلاث أ) تأثير عالم الأشخاص. ب) تأثير عالم الأفكار. ج) تأثير عالم الأشياء، لكن هذه العوامل الثلاثة لا تعمل متفرقة بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقا لنماذج إيديولوجيّة من عالم الأفكار يتم تنفيذها بوسائل من عالم الأشياء من أجل غاية يحددها عالم الأشخاص"6.
إن التغيير الِاجتماعي يتخذ مساراً دائرياً، يصل بين القاعدة والقمة والقاعدة، حيث أن صلاح الأفراد يؤدي إلى صلاح المجتمع، وصلاح الحكام يؤدي إلى صلاح المجتمع و فساد الحكام يؤدي إلى فساد المجتمع.. فالتغيير الِاجتماعي لا يتحقق إلّا بالتكامل والتجانس بين عمل الفرد وعمل الدولة، وبتعاون وثيق بينهما في إطارٍ من المبادئ والقيم، تصهر المجتمع وتحقق وحدته.. فالخطأ الذي اقترفته الحكومات، أنها انصرفت إلى العناية بالبنيان وأهملت العناية بالإنسان، بينما اخطأ الإنسان في الِاهتمام بنفسه وأسرته وترك المجتمع في غيِّه وغفلته.
هذا كي تعود الفكرة المهاجرة من غربتها، ونَنبَعِثَ من توحُّشِنا.. أو حتى نُنقذَ أنفسنا من الِاندثار والفناء.
الهامش:
* يتحدث الشيخ عبد الحميد ابن باديس عن مفهوم الإصلاح بدل التغيير الِاجتماعي وهذا راجع لطبيعة الفترة التاريخية.
1- مالك بن نبي: ميلاد مجتمع ص 14
2- عبد الحميد ابن باديس: الآثار ج3 ص 295
3- نفس المصدر السابق ج4 ص 291
4- غوستاف لوبون : سيكولوجية الجماهير ص 129
5- مالك بن نبي : شروط النهضة ص 32
6- مالك بن نبي : ميلاد مجتمع ص 25
التعليقات