"هناك من جاهد زمانا واحدا وعاش بجهاده لكل الازمان.. وهناك من جاهد في كل الازمان ليعيش آخر زمان.." الأول اختار لنفسه الأخذ والعطاء بمقابل، الثاني اختار لنفسه العمل بعطاء لامتناهي وبكل نكران للذات وبدون انتظار أي مقابل، بل ابتغاء وجه الله..
ومن هنا كنت بين أن أعنون هذا المقال بمجاهدة.. "من الثورة الى الاستقلال" أو مجاهدة "في الثورة والاستقلال"، قبل ان اختار الجمع مستعينا ب(الواو)، بدل امتداد زمني اضع فيه الشخصية التي اتناولها من خلال أداتيْ (في وإلى).. ذلك أن الامتداد كان لابد وان يضعنا في صورة حلقات مستمرة ومتواصلة غير منقطعة لفعل الجهاد (من الثورة الى الاستقلال) في حين ان نموذجنا في هذا المقال، المتنكرة لذاتها، اختارت لنفسها النأي عن استعمال صفة المجاهدة التي اقترنت بالثورة في جهاد الاستقلال الذي كانت فيه الصّفة الأولى مطيّة للبروز والنجاح والحصول على المزايا والاستحقاقات من طرف بعض الاشخاص في بعض الاحيان.
ولأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله فكان لزاما ان نذكر هذه المجاهدة الفاضلة، المنشغلة خلال هذا الشهر الفضيل رمضان المبارك على تنظيم مطعم للإفطار لفائدة عابري السبيل والمساكين على مستوى بلدية جسر قسنطينة، وبالرغم من ان رحلتي معها بدأت منذ سنوات الطفولة، وبالضبط في عام 2009 حين كلفها عبد الحفيظ لحول كمؤطرة لنا في مكتب الطفولة آنذاك، إلا ان عملي المباشر معها الذي يستمر إلى اليوم يمكن ان يعتبر رحلة طويلة بين ثنايا الأزمان والأماكن ومختلف التجارب والمحطات.. يجعلك ذلك تكتشف عالما آخر من سيدات مجتمع سخّرن حياتهن للريادة الاجتماعية والعمل لصالح المستضعفين في الارض من الفقراء والمساكين والفئات الهشّة لا لشيء سوى رضى الله سبحانه وتعالى ونشرا للخير والسلام بين الناس.
لقد كانت طيلة حياتها مجاهدة..
مجاهدة في الثورة وهي الفتاة الصغيرة المولودة في أربيعيات القرن الماضي التي كانت في تلك الحقبة تدرس بين الفرنسيين وفي آخر الدوام تمرّ على أحد الصيادلة الجزائريين ليضع في محفظتها بعض الدواء او بعض الشيء الآخر لتنتقل به الى المنزل وتسلمه لوالديها المجاهدين، قبل ان تنتقل وهي الفتاة الصغيرة دوما، بمظهرها الفرنسي الجميل، لتعمل كمساعدة في التمريض في احد مراكز المجاهدين لتتعلم فيما بعد الرقن على الآلة الراقنة.
في 1962 كانت من بين من أطّر الاستفتاء حول تقرير المصير، يوم انتصر الشعب الجزائري في خطوة ديمقراطية افتكّها بفضل كفاحات ونضالات المجاهدين والمجاهدات في المدن والقرى والفيافي، لتعيش منذ تلك اللحظات شعور الاستقلال بميلاد جديد.
ميلاد جديد في الاستقلال..
لم يكن الميلاد الجديد للسيدة عبد اللاهي فطومة في الاستقلال انفصالا عن حقبة الثورة بقدر ما كان نكرانا للذات وانطلاقا نحو المستقبل دون البحث عن مزايا صفة مجاهد، التي كانت ربما تجهلها آنذاك ولكنها تحمد الله عليها اليوم وهي تقارب السبعين من عمرها..
فقد حافظت فطومة بصفة المجاهدة الى يومنا هذا، ليس أوراقا، إنما قولا وعملا من خلال ريادتها الاجتماعية.
فهي ولاتزال في عمرها هذا تستيقظ في الصباح الباكر وتنطلق بالسيارة في قضاء حوائج الناس، طارقة أبواب الممكّنين وأهل الخير، مقدمة الدعم والمساعدة للعائلات المعوزة والفقيرة والفئات الهشة، سواء بالملبس او المأكل او المشرب اوالعلاج او الدواء، دون أي كلل او ملل.. فلست اذكر لها تأخرها يوما واحدا عن تلبية أي نداء.
فأي الكلمات ستوفي حقّك سيدتي؟
بقلم: سهيل مناصر.
التعليقات