يقول جلال الدين الرومي : "عندما تتخطى مرحلة صعبة من حياتك أكمل الحياة كناجٍ وليس كضحية " ، هذا هو حال الكثيرين ممن اشتغلوا في ميدان الإعلام ، فهل نتعلم من تجربتهم ؟ فالتجارب لمن لا يعتبر غالية الثمن ولا تقدم على طبق من ذهب، فهل سنين العمر وزنها ذهب ؟ .
بحماسة وحب للمهنة ، رموا جهدهم للمحرقة، عدد معتبر من الإعلاميين الجزائريين قدموا جهدهم بالكامل، ولم يتذكروا ولو مرة واحدة أن الجسد والرأس يخزنان التعب والإرهاق ليأتي اليوم الذي يمتلئ فيه الخزان ويفيض ، وتتفجر تلك التراكمات في شكل أمراض ، وهو ما جعل كبريات المؤسسات الإعلامية اليوم تضع قسما خاصا يقوم ب " تسيير وإدارة الكادر البشري الإعلامي " يعنى بالجانب الاجتماعي للمهنيين ، بغية الحفاظ على الإنسان وتستمر المؤسسة .
تجربته ، ملهمة جدا ، يقول :" كل يوم أسمع ، ضجيجا وأحيانا ضحكات وهمسات وأصوات منبعثة هنا وهناك وحتى بالنسبة لنزيل السرير الذي يقتسم معي الغرفة في المستشفى ، الكثيرون يحضون بزيارة الأهل والأصدقاء والزملاء ، البعض يعتقد أنني لا أهل لي ولا أصدقاء ولا زملاء سابقين في المهنة ، لكني حافظت على ابتسامتي المعهودة ، قليل من الزائرين يقتسمون معي أطراف الحديث ، لكني غالبا أركن للصمت والسكوت ، وأن " ألعبها نائم " حتى لا يقلقوني بالسؤال : أنت من أين ؟ وكيف تشعر الآن ؟
صوت طفل صغير توجه نحوي ليسلم علي معتقدا أنني قريبه ، دغدغ مشاعري وأرجعني إلى الأمر الواقع ، لتمر السنوات بين عيني ، عندما كنت بكامل قواي أصعد وأنزل سلالم المؤسسة الإعلامية التي اشتغلت فيه لسنوات ، أرجعني إلى زمن دار الصحافة التي كانت تعج بالصحفيين والعمال ولقاءاتنا مع بعض في مقهى الدار ، "ساندويتشات الفريت أوملات "، أرجعني إلى زمن كنت فيه المحبب لدى الكثيرين ، فلم يكن يرد أحد ، حتى بكلمة طيبة ، صوت الممرضة يكسر حاجز الذكرى الذي انغمس فيه ليعود إلى واقعه الجديد :" غرفة في مستشفى وصحته بدأت تتحسن شيئا فشيئا ، وصار يمكنه أن ينزل من سريره دون مساعدة أحد وبدأ الأكسيجين يتوزع في مسارات متفرقة في الدماغ :" مرحلة صعبة نجا منها بأعجوبة " .. توجه بعينيه نحو الطفل الصغير، ابتسم في وجهه ثم شكره لقد أعطاه " صفعة قوية " وأيقظه من سباته بعد الانسحاب الاضطراري من الحياة اليومية.
هذا الصحفي اسمه من ذهب، لكنه للأسف " استفاق لوضعه بعد أن وصل إلى حافة الموت " ، السبب يقول:
أنا مثل الذي يريد أن يوقد نارا بالحطب ، إن وضعت كل الحطب مرة واحدة اشتعل بقوة ثم سيمر الوقت وتنطفئ ، أنا لم أفقه أحد قوانين وقواعد أو فنون العمل الصحفي إلا بعد أن خرجت منه :" رأيت الصورة بوضوح ". لقد فعلت مثل الشخص دائم العطاء ، لكن يأتي اليوم الذي يحتاج فيه للغير ولو لابتسامة ، لسؤال أليس " مول التاج ويحتاج ؟ " المهنة تحتاجك يوميا متقدا ومشتعلا ، إنها " تأكل الحطب وتحرق " بنزين " المخ والجسد".
لقد علمته الوعكة الصحية التي أصابته ما يلي :" كان لزاما علي أن لا أضع جميع الحطب مرة واحدة ، لا أحرق جهدي مرة واحدة ، أن أشتغل وأتعلم ، لأوقد حماسي كل يوم وشغفي بحب المهنة ، لأنها مهنة قلق يومي وضغوطات لاتنتهي ، نحن ننتهي وهي لا تنتهي ".
فتيحة زماموش.
التعليقات