من يتذكر وريقات " البيفتاك " أو الورق الخفيف ، يحمل لونا بنيا باهتا أو رماديا ، ما أن يحمله الصحفي بين يديه حتى يسمع حسيسه ، كان يوزع على الطاقم الصحفي في قاعات التحرير بكميات معتبرة ، لكن بصراحة " ورق البيفتاك " كان أغلى ما يملكه الصحفي بعد القلم ، يستعمل في كتابة المقالات ، إنه ورق سهل التمزيق والرمي ، لأنه من بقايا الكميات الهائلة التي تستعمل في طباعة الصحف ، كان ذلك في سنوات التسعينيات من القرن الماضي .
اليوم لازلت أحتفظ ببعض الوريقات لكنها مليئة بخربشات وتصحيح رؤساء الأقسام والتحرير ، وبعضها من الكتابات ، رائحتها لم تتغير ، وكأن الزمن توقف برهة ليعود للوراء ،
قبل أن يعرف الصحفي الأنترينت والفايسبوك ، كان صحفي إعلام ما بعد فتح المجال للصحافة الخاصة ، يلهث وراء وريقات " البيفتاك " ، أما المراسل فرحلته في البحث عن محل للهاتف العمومي " شاقة" وبخاصة إن كان الأمر مستعجل وتواجده في المكان الخطأ ، هذا في العاصمة أما إن كان في ولاية أو في مدينة أو قرية فرحلته تكون شبيهة بالبحث عن إبرة في قش ، يسارع الزمن من أجل إرسال خبر أو معلومة أو تقرير بجهاز الفاكس إلى المقر الرئيسي للصحيفة وغالبا ما تكون في الجزائر العاصمة أو قسنطينة أو وهران، كم كان مكلفا ثمن الورقة الواحدة التي يرسلها المراسل عبر ذلك الجهاز العجيب .
خطوات لا تنسى لصحفية مبتدئة ، ولطالبة جامعية لازالت تكتشف مهنة الصحافة ، هنا فقط أتذكر أن صحيفة النصر العمومية التي كانت ثاني جريدة أتعامل معها في بداياتي الصحفية ، قبلت انضمامي لمكتبها بالعاصمة الجزائرية رغم أني لم أحصل بعد على شهادة الليسانس ، الحافز وقتها هو أنني اشتغل يوميا في كذا تغطيات ، طبعا لا أحد يحب المهنة ينسى أول تغطية له وبكل تفاصيلها ، أول تغطية لي ، كانت مهمة جدا ،ندوة صحفية لرئيس الحكومة الأسبق أحمد أويحي 1997 ، رئاسة التحرير في قسنطينة ، رغم كل شيء انتظرتني لأرسل فاكس التغطية الإعلامية ، " صراحة لا أنسى جيدا أن الثقة التي منحوني إياها من قاعة التحرير الرئيسية كانت الفارق الايجابي في سنواتي القادمة في المهنة " ، طبعا الأمر لم يكن سهلا البتة.
إرسال المادة الإعلامية لندوة أويحي ، كان مهما جدا لصحيفة عمومية ، بالنسبة لي نسيت تفاصيل التغطية لكني لازلت أتذكر لحد اليوم "كلمات الرجل " الذي لازلت أتذكر كلماته وهمساته ونغمات حروفه وإيماءات وجهه ، وحركات أصابع يديه ، لازلت أتذكر الندوة الصحفية التي أرهقتني كثيرا لعدد الورقات التي كتبتها ، وطبعا أرهقت جيبي لأن سعر الفاكس وقتها كلفني 560 دينار جزائري ،دفعت ثمنه على جزأين لأنني لم أكن أملك الثمن كاملا ( ... ) .
اليوم أتذكر هذه القصة من جملة القصص التي جربتها في صحافة الجزائر في زمنها الجميل ، على ما أعتقد أنه كان جميلا لأنه مرتبط ب" نية حب المهنة " ، فأول أجرة تلقيتها من النصر ، كانت بالنسبة لي أجمل لحظة في بدايات حياتي المهنية ( لأنها مكنتني من شراء حذاء بثمن محترم وفي عز فصل الشتاء ) وطبعا قصة الحذاء لازالت راسخة في ذهني لأنه أجمل وأجود وأبهى حذاء ارتديته في حياتي .
اليوم في الصحافة تغير كل شيء ، الكمبيوتر والأنترنيت جعل المهمة سهلة ، وأنقص الجهد الفكري والجسدي أيضا على الصحفيين والمراسلين ، علاوة على اختلاف وجهات النظر تجاه هذه المهنة النبيلة .
تجربة النصر ، كانت مرهقة ومتعبة ، لكنها ثرية جدا ، تعلم الصحفي المبتدئ الكتابة يوميا ، الخروج من مساحة النظريات التي يتعلمها في مدرج المحاضرات وفي مخابر الجامعة ، نحو التطبيق الميداني والاحتكاك بأصحاب المهنة ومع المعلومة ، وعدم تضييع الوقت .
الكثيرون لم تتح لهم هذه الفرصة " الصعبة " ولو بأجر زهيد ، لكن كان له طعم ، وكان انتظاره مثل انتظار شخص عزيز بعد طول غياب .
" علينا بالامتنان لكل اللحظات التي تعلمنا خلالها المهنة، حتى وإن كانت صعبة، قاسية، لحظات كان مصير كتاباتنا سلة المهملات، فلهم كل التقدير، لأن القليل منهم فقط من ملك الشجاعة لمواجهتنا بحقيقة مستوانا وسبب مواصلتنا المسير "..
فتيحة زماموش.
التعليقات